بسم الله الرحمن الرحيم (8)
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكل خير .
القصة
الثامنة يريها لنا عن نبينا أبو هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم :«لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا
ثَلَاثَةٌ : عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ – ثم ذكر قصة جريج
هذا فقال : - وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا ، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً ،
فَكَانَ فِيهَا ، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ : يَا
جُرَيْجُ . فَقَالَ : يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي ؟ فَأَقْبَلَ عَلَى
صَلَاتِهِ ، فَانْصَرَفَتْ . فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ
يُصَلِّي فَقَالَتْ : يَا جُرَيْجُ . فَقَالَ : يَا رَبِّ ، أُمِّي
وَصَلَاتِي ؟ فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ ، فَانْصَرَفَتْ . فَلَمَّا كَانَ
مِنْ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ : يَا جُرَيْجُ .
فَقَالَ : أَيْ رَبِّ ، أُمِّي وَصَلَاتِي ؟ فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ ،
فَقَالَتْ : اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ
الْمُومِسَاتِ . فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ ،
وَكَانَتْ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا فَقَالَتْ : إِنْ
شِئْتُمْ لَأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ ؟ قَالَ " فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَلَمْ
يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا ، فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى
صَوْمَعَتِهِ فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا ،
فَحَمَلَتْ ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ : هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ . فَأَتَوْهُ
، فَاسْتَنْزَلُوهُ ، وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ ، وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ
، فَقَالَ مَا شَأْنُكُمْ ؟ قَالُوا : زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ ،
فَوَلَدَتْ مِنْكَ . فَقَالَ : أَيْنَ الصَّبِيُّ ؟ فَجَاءُوا بِهِ .
فَقَالَ : دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ ، فَصَلَّى ، فَلَمَّا انْصَرَفَ
أَتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ وَقَالَ : يَا غُلَامُ مَنْ
أَبُوكَ ؟ قَالَ : فُلَانٌ الرَّاعِي . قَالَ : فَأَقْبَلُوا عَلَى
جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ ، وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ ، وَقَالُوا : نَبْنِي
لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ ؟ قَالَ : لَا ، أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ
كَمَا كَانَتْ فَفَعَلُوا.
أخرجها البخاري في كتاب الجمعة ، باب إذا دعت الأم ولدها في الصلاة .
ومسلم في كتاب البر والصلة ، باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها .
ما أعظمَها من قصة .
أول وقفة أقف معها أنّ من الفوائد التي تدفقت من جوانب هذه القصة أنّ العفة من سمات الإيمان .. كيف ذلك ؟ لأن الله قال :} إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا{ ، وقد دافع ها هنا عن أهل العفة ، فعُلم أنّ العفة من الإيمان .
لقد
دافع الله عنهم في مواطن كثيرة .. أولئك الذين آثروا رضوان الله على
شهوات أنفسهم، أولئك سادات عباد الله ، إنهم ملائكة يمشون على ظهر هذه
الأرض ، سمت نفوسهم ، ورسخ الإيمان في قلوبهم، فلم تحركهم هذه النزعات
الشهوانية ، جعلنا الله من أولئك الأخيار الأطهار .
من العجائب والعجائب جمَّة أن كثيراً من العفيفين اتهم في عرضه :
اتهم جريج كما في هذه القصة ..
اتهمت أمنا عائشة رضي الله عنها ، فقد أشاع المنافقون حديث الإفك ..
اتهم يوسف رمته امرأة العزيز بدائها وانسلت ، قالت لبعلها :} ما جزاء من أراد بأهلك سوء{ !!
اتهمت مريم عليها السلام .
ولكن الله تولى الدفاع عنهم ، فدافع عن جريج العبد الصالح ..
ومن العفيفين الذي دافع الله عنهم : أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ولعنته على من قلاها أو سبها .
لما اتهم الناس عائشة وهي سيدة الطاهرين والطاهرات رضي الله عنها أنزل الله قرآناً يُتلى ؛ دفاعاً عنها ، فقال في ذلك :}
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ
وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ
مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ { .
ولما رمت امرأة العزيز يوسف بقولها :} مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًاإِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{ .. دافع الله عنه ، فأشهد كل من له تعلق بالقصة ببراءته ..
المرأة المراودة زوج العزيز قالت:} أنا راودته عن نفسه{ ..
زوجها الملك قال :} إنه من كيدكن { ، شهد شاهد من أهلها :} وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ{ فبان أنّ الأمر كذلك . النسوة قلن :} حاشا لله ما علمنا عليه من سوء{ . شهد بها الله وكفى بالله شهيداً :} كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ{ . بل شهد ببراءته إبليس عليه اللعنة لما قال :}
قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ
وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ{ ، والله قال عن يوسف عليه السلام :} كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ{ ..
منهم مريم عليها السلام ، رماها قومها بالفاحشة ، }قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا{
، فأنطق الله صبيها في مهده ليدافع عنها كما أنطق الصبي في قصة جريج ،
فهاتان كرامتان ، مما يدل على أنّ العفيفين من أولياء الله ، لأن الكرامة
أمر خارق للعادة يجريه الله على يد أوليائه . فدافع الله عنها بقوله :} وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ{ ، وقال :}
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا
فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ
وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ{ .
فما أعظمَ دفاعَ الله عن العفيفين .
وكيف لا تكون العفة بهذه المكانة السامية وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :«إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنْ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ» .. فهنيئاً لهؤلاء الكرام الذين طهرت نفوسهم ..
من
مهمات الفوائد في هذه القصة فائدة أخاطب بها كل والد ووالدة : مهما أساء
الابن إليكم ، لا تحاولوا أن تدعوا على أبنائكم ، لا تدعوا إلا بخير،
ادعوا لهم بالصلاح والخير والتوفيق . فدعاء الأم والأب مستجاب سواء كان
للولد أو عليه . فلا ينبغي في لحظة غضب وساعة انفعال سريعاً ما يزول لا
ينبغي أن يُرفع منك دعاء على ولدك ، فإن الله إذا استجاب آلمتكم نفوسكم ،
وأنبتكم ضمائركم ، وامتلأت بالأسى قلوبكم ، فلنتعقل أخي الأب وأختي الأم .
من
الأحكام المهمة التي اشتملت عليها هذه القصة أن الأب أو الأم إذا نادى على
ابنه وكان يصلى نافلة فالواجب عليه أن يلبي نداء والديه . وفي المسألة
خلاف يرجع إليه في مظانه ، وهذا هو الصحيح ، وهو وجه في المذهب الشافعي.
وقول المالكية.
وهي فائدة تجر بأختها : أنّه إذا تزاحم واجب ومستحب قدم الواجب .
وعلى الابن أن يحذر من غضب والديه ، ففي رواية لهذه القصة :}فَغَضِبَتْ
فَقَالَتْ : اللَّهُمَّ لَا يَمُوتَن جُرَيْجٌ حَتَّى يَنْظُر فِي وُجُوه
الْمُومِسَات» ، فغضب الله في غضب الوالدين ، ورضاؤه في رضائهما ، أما ترى
أن هذا الرجل من أولياء الله ، أجرى الله على يديه هذه الكرامة، ولكن لما
غضبت أمه عليه لم يمنع صلاحه من استجابة الله لدعائها . ولذا قال الإمام
مسلم رحمه الله عند هذا الحديث : باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها .
والمومسة : البغي الزانية . وجمعها مومسات ، و مَوَامِيس .
وفي بداية هذه القصة قال النبي صلى الله عليه وسلم :«
لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ» .. ولا يشكل علينا أنّ
من وردت النصوص بأنهم تكلموا في المهد أكثر من ذلك ، فتكلم هذا الصبي ،
وعيسى عليه السلام ، والشاهد في قصة يوسف ، وصبي أصحاب الأخدود ،.. أقول :
لا إشكال بين هذا وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم :« لَمْ يَتَكَلَّمْ
فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ» ، فإما أن يُحْمَل هذا الحصر عَلَى
أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ قَبْل أَنْ يَعْلَم الزِّيَادَة
عَلَى ذَلِكَ كما نقله ابن حجر عن القرطبي رحمهما الله ، أو يقال : الشاهد
في قصة يوسف كان كبيراً ، وأما اثر ابن عباس الذي فيه أنه تكلم في المهد
فقد حكم ابن حجر عليه بالضعف ، والله أعلم.
من
دروسها أنّ الحسد داء عضال ، إن قوم هذا الرجل لما لم يتمكنوا من أن
يكونوا مثله فحسدوه ، وحاولوا الإضرار به، وقد قيل :" ودت الزانية أن لو
زنى الناس جميعاً ".
لقد
أخطأت تلك البغي في تقديرها للأمور ، وحسبت أنّ النزعة الشهوانية البهيمية
تسيطر على الناس كلهم كما الحال عندها ، وما علمت أنّ من عباد الله من لا
تهون عليه المعصية ولو ضُرب عنقه ومزقت أوصاله .
إنّ
جريجاً هذا يذكرنا بفعل الربيع بن خثيم ، فقد حاولت بغي إغراءه في مكان لم
يضمَّ غيرَهما، فلم يعبأ بها ، وقال لها في نفسها قولاً بليغاً ، فكان
سبباً لتوبتها . إن من عباد الله من يرد امرأة جاءت إليه راغبةً فيه؛ لخوفه
من الله ، ومنهم من يسعى بنفسه إلى مقارفة الفواحش ويبذُلُ لذلك كل جهده
.. فيا بعد ما بينهما .
إنَّ
التبين والتريث والتثبت أمر دلت هذه القصة على أهميته ، ولو كان في قائمة
أخلاقهم لما ضُرب جريج ظلماً .. كان الأحرى أن يتبينوا منه قبل أن يقدموا
على حماقاتهم هذه . ولقد نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم
يخبره بما فعل حاطب لما تحرك جيش الإسلام لفتح مكة فاستدعاه وقال له :« ما
حملك على ما صنعت» وهو رسول الله يُوحى إليه . إنه لا أحد أحبُّ إليه العذر
من الله كما قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .
من اللطائف التي تستفاد : أنّ مما يعين على العبادة أن تتخذ لها مكاناً بعيداً عن الناس ؛ لئلا ينشغل المرء بهم .
وفيها إثبات الكرامة وأنها كانت في الأمم السابقة .
وفيها
أنّ الكلام في الصلاة لم يكن محرماً عندهم لقول جريج في صلاته : اللهم أمي
وصلاتي . ولم يكن حراماً في ديننا في بداية الأمر حتى نزلت الآية :} وقوموا لله قانتين{ .
وفي القصة معنى قوله تعالى عن المنافقين :}وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء{ ، أُخذت من تذاكرهم لعبادة جريج .
وفيها الاستعانة بالصلاة كما قال رب العالمين :}وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ{ ؛ فإن جريجاً لما جيء له بالغلام طلب أن يصلي قبل أن يسأله .
وفيها معنى :} ويمكرون ويمكر الله {
وفيها
أنّ التمسح والتبرك بالصالحين فعل من لا يقتدى بفعله ، فالذين أخذوا في
ضربه هم من فعل ذلك ، ألا وإن التبرك بالصالحين ذريعة إلى الشرك وبدعة في
الإسلام ، وليس من أحد يتبرك به إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفيها أنّ الضمان يُؤخذ ولا حرج في ذلك ؛ فقد أمرهم أن يعيدوا صومعته كما كانت .
وفيها حسن خلقه إذ لم يرض منهم أن يشيدوها من الذهب .
وفيها : سوء عاقبة الغضب ؛ فبالغضب دعت أم جريج عليه ، ولذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه .
وفيها أنّ الزِّنا قبيح محرم في جميع الشرائع السابقة .
أكتفي
بما سبق ، والله اسأل أن يبصرنا في ديننا ، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم
على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته